الصراع في ليبيا أقرب إلى حرب أهلية بين الليبيين، فصورة بلد عمر المختار، بعد (إعلان التحرير)! القتل والخطف مروراً بقطع الطرق إلى فوضى السلاح والمسلحين تلك الثقافة التي جلبها التدخل الغربي و''الناتو'' عام 2011 في ليبيا وسلطات جديدة منزوعة المخالب تجاه ما يحدث، وفاقدة للسيطرة على الميليشيات المسلحة التي انتشرت ونمت كالفطر وهو ما يشكل تحدياً للحكومات المتعاقبة.فراغ في السلطة وصراع تناحري عليها، واحتقان شعبي يقود إلى العنف في الشارع. من يعرف صورة ليبيا الجديدة، بعد انقضاء أكثر من عامين على نكبتها المزدانة بشعارات ''برنار هنري ليفي'' رسول ربيع الدم في حاضر العرب، ومن يستطيع أن يضع يده اليوم في بلاد ''عمر المختار'' على بقعة ضوء يمكن الرهان عليها كبشارة لطلوع فجر الخلاص، لشعب ألبس قسراً قميص ثورة لم يسع إليها، ولم تكن خياره، ولم تجد لها مكاناً في وجدانه العروبي المشتعل بنبضه القومي الذي عصمه طوال أربعة عقود، من السقوط في كمائن الرجعية العربية وتجلياتها الظلامية التي تجسدت اليوم بجحافل التكفيريين العرب الخارجين من رحم الطالبانية الحديثة التي تمددت اليوم، في مغرب الوطن العربي ومشرقه، مزودة بكنوز البترودولار وأسلحة الثكنة العثمانية التي يديرها رجال المافيا الطالعون من عباءة حلف الناتو لإنتاج فوضى ربيع الدم والخراب، في شرق أوسط استعصى حتى اليوم على الخضوع للمشيئة الصهيونية، التي تريده منذ عقود ملعباً طيعاً لتوسعها، وسوقاً مفتوحاً لاقتصادها، ومسرحاً لاستعراضاتها العسكرية التي ترعاها القوة العظمى الأمريكية، وتحقن شرايينها بالمال والسلاح!
ليبيا اليوم تعج بفوضى السلاح والاقتتال ـ ولم يمر يوم دون وقوع عمليات اقتتال في الغرب كما في الجنوب والشرق. واقتسم عرب النفط الأميركي ـ الصهيوني النفوذ مع الغرب في ليبيا فالشرق من حصة (قطر) وهناك حصص أخرى للسعودية وأخرى للغرب الاستعماري مباشرة وغير مباشرة. إلى ذلك باتت ليبيا مصدراً لتهديد مصر العربية ومعولا لتهديم الكيان الوطني المصري. فالسلاح الليبي يجتاز الحدود لتجهيز جيوش التكفير والمتطرفين الإسلاميين وأعلام القاعدة رفعت أخيرا في شوارع القاهرة من أجل تعميم الفوضى في مصر والعمل على تقسيم أرض الكنانة.
وفي سابقة من نوعها أقر رئيس الوزراء الليبي ''علي زيدان'' الذي تمّ اختطافه وأعيد إطلاق سراحه بعد ساعات، أقرّ باستخدام بلاده كقاعدة لتصدير الأسلحة إلى أنحاء المنطقة طالباً مساعدة أجنبية لوقف انتشار الأسلحة في ليبيا. وقال ''زيدان'' إن حركة هذه الأسلحة تهدد دول الجوار أيضاً، لذا يجب أن يكون هناك تعاون دولي لوقفها. مؤكداً أن الانتشار الواسع للأسلحة في ليبيا يشكل تهديداً أمنياً خطيراً، حيث يجري تهريب الأسلحة من وإلى ليبيا عن طريق جماعات تحاول قتل واغتيال الناس ونشر الرعب في البلاد.
وأضاف ''زيدان'' نرى يومياً مسلحين يقاتلون بعضهم بعضاً والمشكلة هي أن الأسلحة متاحة للمواطنين الليبيين ومتاحة للشباب وهي في المنازل ومخزنة في كل مكان.
أما الأمم المتحدة فقد أكدت في نيسان الماضي، أن أسلحة مهربة من ليبيا تنتشر بصورة مقلقة في غرب أفريقيا وشرق البحر المتوسط وخاصة في مالي وسورية تعزز ترسانة المجموعات المسلحة.
وبحسب تقرير أعده خبراء بمجلس الأمن الدولي فإن ليبيا باتت في العامين الماضيين مصدراً مهماً وجاذباً للأسلحة، مشيراً إلى رصد شحنات سلاح غير مشروعة وصلت إلى 12 دولة تشمل أسلحة ثقيلة وخفيفة بما في ذلك أنظمة محمولة للدفاع الجوي وذخائر بينها الألغام.
كما لفت التقرير إلى أن مناطق بعينها في ليبيا تنطلق منها شحنات السلاح كمدينتي بنغازي ومصراتة الساحليتين حيث تهرب شحنات الأسلحة عبر لبنان أو تركيا إلى المجموعات الإرهابية في سورية.
فكل شيء في ليبيا الجديدة خطير وينذر بالانفجار في أي لحظة، هذا ما تقوله الأمم المتحدة معددة دواعي الانفجار: السلاح الداشر في كل مكان، ''الثوار'' المنفلتون من كل حساب وعقاب، عجز الحكومة الجديدة، عمليات الخطف والقتل والانتقام والتعذيب المروعة، المعتقلون وهم بالآلاف وانتهاك إنسانيتهم من قبل ''الثوار''، اشتعال المواجهات المسلحة بين الفصائل التي شاركت في إسقاط النظام السابق، انتقال المسلحين خارج ليبيا إلى دول الجوار وجوار الجوار مع مشاريعهم الإرهابية... كل ما سبق سيفجر الوضع في ليبيا الجديدة في أي لحظة، كما سيفجره في الجوار وفي دول عربية، هذا طبعاً حسب الأمم المتحدة وتقريرها الذي نشر مؤخراً وأعده مندوبها هناك ''أيان مارتن''.
وفي نفس السياق، فقد كشف تقرير تناول الأوضاع الحالية في ليبيا، أن الأحداث التي تشهدها الساحة الليبية لا تؤشر إلى بداية عهد من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في ظل الصراعات والاشتباكات التي تغذى خارجياً من لاعبين كبار وصغار بهدف تفتيتها داخلياً وإحكام السيطرة على مقدراتها.
وفي تقرير لمركز الناطور للدراسات والأبحاث حمل عنوان ''اللاعبون الكبار في الملعب الليبي... أمريكا فرنسا بريطانيا وإيطاليا الأبعاد والأهداف والنتائج'' ذكر، أن لاعبين إقليميين صغاراً ولاعبين دوليين كباراً يمارسون لعبة السيطرة على ليبيا مستخدمين كل الوسائل والأسلحة منها النشاط الاستخباراتي وتوظيف الفكر السلفي وإعادة التأهيل الديني وفق قواعد التثقيف بالفكر السلفي المتشدد إضافة إلى محاولة تفجير العنصر الإثني لتتصارع ليبيا وتدخل في نفق الحرب المظلم خدمة لأهداف هؤلاء اللاعبين.
وأوضح التقرير أن تواجد هؤلاء اللاعبين الكبار في الساحة الليبية بشكل متنامي ومتصاعد لتحقيق الأهداف الاستراتيجية السياسية والاقتصادية يتطلب التموضع والانتشار والتواجد الاستخباراتي والأمني إلى جانب الواجهات الأخرى ولتحقيق هذا الهدف يجري استخدام كل الوسائل لإبقاء الساحة الليبية تعاني من اضطراب ومن صراعات.
وبين التقرير أن أهداف اللاعبين الكبار في الساحة الليبية تتمثل في إحداث الفرقة والوقيعة بين المكونات السياسية الليبية عن طريق دعم وتبني بعضها لإضعاف المكونات الأخرى وتوظيف الاحتقان والتباينات القبلية والمناطقية وتعميق الانقسام عملا بالمثل القائل فرق تسد إضافة إلى دعم اتجاهات وأجندات تتأسس على فكر الانسلاخ والانفصال بدوافع أمنية كما هو حادث في منطقة الكفرة وفي الجبل الغربي.
وأشار التقرير إلى أن اللاعبين الكبار استحوذوا على الكعكة الليبية وأخرجوا لاعبين دوليين كان لهم حضور فاعل في ليبيا مثل روسيا والصين، منبهاً إلى أن الولايات المتحدة تخطط لإعادة تأهيل قواعد عسكرية في ليبيا كانت قد أقامتها واستخدمتها في طرابلس وبنغازي وطبرق نظراً لأهمية ليبيا الجيواستراتيجية وموقعها الهام في شمال ووسط وغرب إفريقيا وإمكانية إقامة قواعد بحرية وجوية وبرية.
وأوضح التقرير أنه بالتوازي مع الهدف الاستراتيجي والاقتصادي فإن الولايات المتحدة تعول على لاعبين محليين ليبيين يرتبطون بها بعلاقات وأواصر قوية قوامها العلاقة التي نسجت مع قيادات ليبية سياسية وعسكرية خلال وجودها إما في الولايات المتحدة أو في بريطانيا وألمانيا ودول أخرى.
وثمة معطيات إقليمية ودولية أصبحت أكثر تأثيراً في ترسيم راهن المنطقة المغاربية ومستقبلها، بخاصة التحول البارز في مسار العلاقات الأوروـ أمريكية، إذ تشير المعطيات في منطقة المغرب العربي إلى أن بلدانها الخمسة: (ليبيا ـ تونس ـ الجزائر ـ المغرب ـ موريتانيا) تتعرض إلى المزيد من التغيرات، حيث تعرف بعض الدول اليوم جيلاً جديداً من المسؤولين، بعدما عادت تونس قاعدة للمؤتمرات المشبوهة ضد مصالح الأمة العربية. وأتمّ حلف شمال الأطلسي عدوانه الهمجي ضد المدنيين من أبناء الشعب العربي الليبي، بطلب من ''ثوار الناتو'' الذين تسللوا في غفلة من التاريخ وبمساعدة أطراف خارجية مشبوهة.
فعندما بدأت طائرات الناتو بقصف ليبيا تحدث كثير من المحللين والمتابعين عن خطة غربية خبيثة لتقسيم ليبيا إلى ممالك وإمارات ضعيفة ومنهكة حتى يسهل على الغرب الاستيلاء على نفطها وثرواتها، لكن الإعلام الغربي والعربي المشبوه، ظل يعزف نغمة الدفاع عن حقوق الإنسان وتخليص الشعب الليبي من الديكتاتورية وحماية المدنيين هناك. وما إن نفذ الناتو وحلفاؤه مخططهم الأولي في ليبيا حتى بدأت ''ثمار الديمقراطية'' المزعومة تهلّ على الليبيين عبر إعلان ''الفدراليات'' والتمهيد للانقسام في جنوب ليبيا أو شرقها، فمرة ''إعلان فيدرالية برقة'' وتارة الترويج لاستقلال سبها أو طرابلس الغرب، وبدأت ليبيا تدخل في نفق المستقبل المجهول مع الحديث عن تعميم هذه التجربة ''برقة'' على باقي المناطق الليبية في سياق مخطط غربي استعماري جديد لليبيا.
ومن يضع مخططات الفيدرالية في ليبيا في سياقها العام في المنطقة العربية يجد أنها جاءت بعد تقسيم السودان إلى شمال وجنوب برعاية عربية وأممية، وكذلك ترسيخ تقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات على الأرض وانتظار الوقت المناسب لإعلانها بشكل رسمي، وكذلك مع تصاعد الأصوات التي تطالب بتقسيم مصر إلى دولتين قبطية وإسلامية وغيرها من ''مخططات التقسيم'' في طول الوطن العربي وعرضه. فما يجري اليوم من محاولات لتقسيم ليبيا إلى فيدراليات ضعيفة وهزيلة يؤكد أن دعوات الغرب لنشر الحرية والديمقراطية ما هي إلا الغطاء المطلوب لتنفيذ الأجندات المعروف بالسيطرة على ثروات العرب ومقدّراتهم وإضعافهم إلى درجة لا يستطيعون فيها الدفاع عن أرضهم وحقوقهم.
ليبيا الموضوعة على لائحة التقسيم والفدرلة تتميز بموقع جيواستراتيجي، لكنها تقترن أيضاً بميزات إضافية ذات طبيعة استراتيجية حيوية، فهي تشكل اثنين في المائة من إنتاج النفط العالمي، وهي بوابة أفريقيا الشمالية، وصاحبة أطول شواطئ الاتحاد المتوسطي، وعصب الجغرافيا السياسية للمغرب العربي، وهي على بعد مرمى حجر من الولايات المتحدة الأوروبية الموعودة، كما أنها تختزن برمالها الكثير من الاحتمالات المفتوحة على مختلف صنوف الخيارات الداخلية والخارجية.
ويبدي ''ألكسي بودسيروب'' من معهد دراسات الشرق الأوسط في الأكاديمية الروسية للعلوم ـ موسكو، رأيه عمّا استفادته الدول من ربيع ليبيا العربي، حيث يقول: ''إن الذين استفادوا من هذا الوضع هي تلك الدول التي تضع الآن يدها على المقدّرات الليبية المجمّدة حالياً''، مشيراً في ذلك إلى قطر التي تمكنت من بسط نفوذها بشكل كبير، في المقابل تدهورت ظروف المعيشة في ليبيا، حيث ترتفع معدلات البطالة وينخفض الدخل القومي، وما زال حتى الآن عشرات الآلاف من الأشخاص في السجون الليبية، وتستمر ملاحقة مناصري ''القذافي''، كما ذكر ''بودسيروب'' المحاولات الفاشلة لمحكمة الجنايات الدولية في الحصول على معلومات محايدة لما يجري في سجون ليبيا.
فالتقسيم وتقطيع الأوصال... هو نهاية ما رمى إليه العابثون بمصير ليبيا التي لا زالت تمضغ الطعم المر الذي جلبه شرّ الناتو على متن طائراته وصواريخه وقدراته العسكرية المدمرة والظالمة التي مزقت البلاد وفرقت بين العباد... وتركتهم في مهب ريح التناحر والتشرذم في كابوس رهيب وفوضى عارمة، يحارب الأخ أخاه ويسعى للابتعاد عنه طمعاً في السيطرة والحكم أو تحت عناوين الفدرلة وما شاكلها من شعارات براقة لكنها خادعة لا ترمي إلا لمزيد من الفرقة والتحلل الاجتماعي والمؤسساتي وتهديد الوحدة والسلم الأهلي وبنيان الدولة كحامي وضامن لمصالح الشعب وأمنه واستقراره. فمشهد إعلان برقة إقليماً فيدرالياً من المؤكد أنه لن يكون الأخير وبخاصة مع بروز دعوات داخلية عديدة لتقسيم ليبيا وتحويلها إلى دولة اتحادية تضم عشرات الدويلات والكيانات والأقاليم، وفي ظل ذلك العجز الواضح للحكومة الانتقالية، فهي تعتبر ما يجري بمثابة مؤامرة خارجية يديرها أشقاء عرب وبالتحديد قطر، وتعتبر الحكومة العاجزة أن بعض الدول العربية تذكي وتغذي الفتنة التي نشأت في الشرق.
أوضاع ليبيا اليوم، تدعو للخوف والمستقبل غامض، وأسباب هذا الخوف عديدة ومتنوعة: أمنية وسياسية وسيادية واجتماعية، وليس من سبيل إلى تغطيتها بأكاذيب قنوات الفتنة أو بكتابات مأجورة، أو بترديد القول أن أي نظام سياسي في ليبيا سيكون ـ قطعاً ـ أفضل من النظام السابق.
والمقطوع به أن نظرة سريعة على فصائل ''الثوار'' الليبيين توضح لنا كيف أننا أمام جمع غير متجانس، إذ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، الأول يشمل فريقاً من الذين عملوا مع ''القذافي'' طوال عقود خلت ولاحقاً تمردوا على نظامه وعلى أسلوبه في الحكم، والثاني من البربر ومن قبائل الطوارق والتبو، فيما القسم الثالث فيحتوي على جماعات متباينة لا يجمعها إلا رؤية إسلامية راديكالية واحدة، سعت إلى الإطاحة بالنظام القديم...
ولعل القارئ يعني له التساؤل: ما الذي يجمع هذه الفصائل غير المتجانسة معاً؟
فالراجح على الأرض أن الحكومة الليبية لن تخرج من مأزقها، فالتيار الإسلامي المتشدد يقف خلف ستار الأزمات، بدعم من جهات خارجية، ممسكاً بيديه ورقة المليشيات المسلحة لتقوية نفوذه في السلطة والجيش والمؤسسات الأمنية، ومن المعروف أن أكثرية زعماء المليشيات أعضاء في جماعات إسلامية أو من مؤيديها وحلفائها.
وقد كان الرئيس السابق لـ (المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي)، محمود جبريل، قد حذر من مخطط تتولى تمويله دولة قطر للإطاحة بالعلمانيين واستفراد الإسلاميين بالسلطة، وتحويل ليبيا إلى (إمارات إسلامية) وفرض مفهوم خاص لتطبيق اللامركزية. وأكد جبريل أن ليبيا تحولت إلى مرتع لمخابرات دول العالم وحذر من تدخل أجنبي جديد إذا لم تسارع السلطات إلى ضبط المرحلة.
فالصراع اليوم في ليبيا أكثر بكثير من حرب أهلية بين الليبيين، وكما ذكرت التقارير الإعلامية الأجنبية، فالميليشيات المعادية للنظام السابق لم تثبت رحمتها وشفقتها على الشعب الليبي، ويبدو أنهم يريدون الثأر أكثر من تطبيق العدالة كما يدعون. أما الحكومة التي تحكم البلاد نظرياً، فهي غير قادرة على وقف ممارسات التكفيريين الإرهابيين، وهي ليست في وضع يؤهلها لوقف عمليات التطهير التي تقوم بها الجماعات المقاتلة التابعة للقاعدة ضد الشعب الليبي.
فالحكومة مشلولة ومسؤوليها عاجزون جميعهم عن وضع حد للميليشيات المسلحة، وهم جميعهم يعترفون بأن هذه الميليشيات هي من يدير البلاد بعدما ملأت الفراغ الذي خلفه سقوط ''معمر القذافي'' والقضاء على القوات النظامية من أمن وشرطة. فالمسلحون يرفضون التنازل عن أسلحتهم وعن سلطتهم. وتصريحات حكام ليبيا الجدد تنذر دون أدنى شك باقتراب التدخل الأمريكي والتمهيد له، في ظل عجزهم عن ضبط الأوضاع وعدم سيطرتهم على الميلشيات التي لا يستطيع أحد الوقوف بوجهها، أو منعها من فعل ما تريد، وأكبر دليل على ذلك الاشتباكات الدموية بينها كل يوم.
فحكام ليبيا الجدد وضعوا الشعب الليبي أمام خيارين أحلاهما مر: إما أمريكا وصفحتها السوداء إزاء قضايا المنطقة، وماضيها المتسخ بما فعلته في العراق وأفغانستان، وإما حرباً أهلية تغرق البلاد في حمام دم لن يكون أحد بمنأى عن الصراخ من ويلاته، وبالطبع ليس للشعب الخيار بينهما، فالمرسوم أصلاً في السيناريو الليبي سيكون بمعزل عما يقرره الشعب، الذي بات فعلياً أما خيارين هما خيار واحد ''التدخل الأمريكي''. وفي خضم هذا المشهد المأساوي الغامض لصراع الشركاء على سلطة لم تتضح تماماً، على المرء أن يبحث في الركام عن مصلحة الشعب الليبي بجهد خرافي يشبه جهد من يبحث عن إبرة في كومة قش!
فاستراتيجية أمريكا تتضمن لاستهداف المنطقة العربية العمل على تنفيذ محورين أساسيين هما: المحور الأول يقوم على تنفيذ عقيدة الشركات النفطية الخمس عالمياً، والمتمثلة في الانتقال من السيطرة على تجارة النفط وأسواقه إلى السيطرة على مناطق إنتاجه ومن ثم على منابعه، وذلك بغية التحكم بأسعاره وكميات إنتاجه وضمان استمرار تدفقه إلى الدول الغربية الرئيسية، لذلك كانت البداية مع العراق الدولة (المتمردة) التي تملك ثاني احتياطي عالمي ولا تحظى فيها الشركات الخمس باستثمارات ترضيها، ومن ثم جاء دور ليبيا التي لم تكن لينة في الامتيازات التي منحتها للشركات النفطية الغربية، إذ يكفي مثلاً أنها دفعت تعويضات حادثة لوكربي من رسوم فرضتها على تلك الشركات لا من الخزينة الليبية، إضافة إلى تهديداتها التي لن تنساها واشنطن بتبديل عملة بيع نفطها...
وأحاديث النفط، تقودني للحديث عن معضلة النظرة العالمية ولا أقول الغربية أو الأوروبية أو الأمريكية فقط إلى ليبيا، إذ بات كثيرون شرقاً وغرباً، دولاً ومؤسسات وأفراد ينظرون إلى الاقتصاد الليبي بوصفه الكعكة الجاهزة للاستثمار والواجب تقاسمها قسمة تصل إلى حدّ قسمة الغرماء. وفي الوقت الذي يشهد بداية وضع اليد الغربية على النفط الليبي، وفي حين يمتلك الشعب الليبي مئات المليارات من الأموال المجمدة في مصارف الغرب وبعض البلدان الخليجية، نلاحظ سباقاً محموماً بين المؤسسات المالية العالمية على تقديم عروض لإقراض ليبيا أموالاً لإعادة الإعمار، أي بكلام آخر لتعويم صناديق الشركات الغربية المفلسة.
لقد قتل وجرح وشرّد الألوف من أبناء الشعب الليبي، ودمرت مدن ليبية بأكملها، وسيكون على ليبيا، لو عادت إلى الاستقرار، وفيما لو سمح لها الحلف الأطلسي وامتداداته الإقليمية والمحلية بإعادة بناء نفسها... سيكون عليها أن تواجه الكثير من السنين العجاف مع الشك الكبير بإمكانية الوصول إلى السنين السمان في ظل ما يحتبس من تخبطات في فضاء ليبيا المصلوبة على خشبة حلف الأطلسي، أما (الحكومة المشلولة) فهي المضطلعة بدق المسامير في الخشبة!
في هذا السياق يشعر المرء بحالة من الحزن والأسى على الاقتصاديات والثروات الطبيعية العربية وكيف أنها تعرضت في العقود الأخيرة لعمليات نهب وسلب منظّم ومدروس، فثلاث دول هي الكويت والعراق وليبيا تصل التكلفة الإجمالية لإعادة إعمارها سويّة ما يزيد عن 2.5 تريليون دولار، وللقارئ أن يتأمل ويتفكر بل ويتدبر كيف كان لمثل هذه الأموال أن تحدث ثورة تنموية وتعليمية وصحية وبحثية وعلمية في العالم العربي، إذا كان قد تمّ استثمارها على الوجه الأمثل لا على الوجه السلبي المتمثل في إعادة الإعمار بعد الخراب والدمار الذي ربما كان مقصوداً بالفعل إحداثه لصالح الآخرين الذين تعاني اقتصادياتهم من خلل واضح ومن مأزق وأزمات عالمية لا تخفى عن أحد.
واقع ليبيا اليوم هو كواقع العراق مع فوارق التعدد الطائفي في العراق، لكن المشكلة واحدة هي بناء الدولة بكل مؤسساتها وتقاسم السلطة بين كل مكونات المجتمع الذي هو في ليبيا قبلي إلى حدّ كبير. إنها ليبيا الجديدة كما أرادها الغرب تماماً، دولة صراعات لا تنتهي، تَغرق وتُغرق معها ما يريده هذا الغرب من دول مجاورة عربية وغير عربية.
فمستقبل قرار الدولة أصبح بيد أمريكا وحلفائها، حيث يُأخذ على (الحكومة المشلولة) إفساح المجال للولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف (الناتو) بالتدخل في تفاصيل الأوضاع الداخلية الليبية، ورسم مستقبل ليبيا، بحجة دعمها لمقاتلي الجماعات الإرهابية لاجتثاث نظام الحكم السابق.
وفي هذا السياق يمكن القول: أن ثمة دولاً عربية نفطية أخرى مرشحة لتكون التالية بعد طرابلس الغرب، منها التي ما زالت بعيدة عن السيطرة الكاملة للشركات الخمس البترولية ومنها ما يدور في فلكها، لكنها لم تسلم مناطق إنتاجها النفطي بالكامل لهذا التحالف الاستغلالي...
أما المحور الثاني فيتمثل في إزاحة الدول العربية، التي تستند إلى مقومات سياسية وجغرافية واقتصادية غير نفطية، لكن يمكنها أن تقف عقبة في تنفيذ المحور الأول من هذه الاستراتيجية، لذلك كان التوجه لتجزئتها وخلق مشاكل داخلية تدفعها للانعزال والقوقعة والانشغال بما يحدث فيها.
فما يحدث في السودان واليمن ولبنان وما يحدث اليوم في سورية ليس إلا تنفيذاً لمشروع مواز للسيطرة على منابع النفط يهدف إلى (إزالة الخوف) لدى الشركات الخمس من أي عوائق قد تتعرض تنفيذ المشروع (المصيري) لمستقبل اقتصادات أمريكا والغرب. وما يميز هذه الاستراتيجية أنها تنفذ وفق برنامج زمني طويل الأمد لا مرحلياً كما يعتقد بعض الدول العربية، بمعنى أن الدول العربية المستهدفة توضع طوال عدة سنوات في مناخ يساعد على تحقيق هذه المهمة.
فالعراق لم يكن من السهل احتلاله دون توريطه بمشاكل إقليمية وتدميره داخلياً، والنجاح في تقسيم السودان إلى دولتين لم يتم إلا بعد تعريضه لحرب أهلية قاسية، وليبيا دخلت في حرب افتراضية مع الغرب منذ عقدين ونصف العقد حتى سمح لطائرات الناتو بتدميرها.
فليبيا اليوم ساحة دم ودمار وموت ورعب وميليشيات مجنونة، رجال غرباء في كل مكان، ليبيا اليوم تزدحم بالقلنسوات الإسرائيلية. ولن تعود إلى ما كانت عليه قبل مائة عام، ستظل الضباع تنهشها وتأكل جسدها كما تأكل الديدان الجسد الميت.
والسؤال الذي يطرحه كل عاقل: أين ثورة 17 فبراير الشبابية الشعبية في كل ما يجري في ليبيا الجديدة؟ لا نكاد نتعرف إليها إلا إسماً مكتوباً على عربات عسكرية يقودها مسلحون لا نعلم من أي الملل والنحل هم؟! والسؤال الملح الذي يطرحه كل مواطن عادي: أين شعار ''الثورة الليبية'' التي ستحرر البلاد والعباد من حكم ''معمر القذافي''؟
كل الوقائع تثبت أن ما يسمونه الثورة الليبية هي في الحقيقة محض جريمة ارتكبت على الأرض الليبية في وضح النهار، ونفذها حلف الناتو بالتواطؤ مع المؤسسة القطرية الحاكمة، لإشاعة فوضى طويلة الأمد في الإقليم الليبي تؤدي في النهاية إلى تفككه وتقسيمه، على أيدي عصابات ''عبد الحكيم بلحاج'' وأشباهها من المجموعات التكفيرية التي تنشر شرورها اليوم من مالي في أقصى الشمال الافريقي، إلى سورية في المشرق العربي. تلك الفوضى التي صارت وضعاً مثالياً لرموز الغرب الاستعماري في باريس ولندن، لنهب الثروة الليبية والسطو على مقدرات الشعب العربي الليبي ومدخراته الوطنية إلى زمن لا يمكن التنبؤ بنهايته.
فهل سمع العالم عن ثورة في التاريخ يفجرها بضع عشرات أو مئات، ثم تستعين بأقوى الأساطيل الجوية على شعبها وجيشها لفرض معادلة قوة ظالمة، ثم تكون نتيجتها شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد، يجثم اليوم على صدور الليبيين ليخنق في صدورهم نبض الحياة؟
وعلى الرغم من سوداوية المشهد الليبي الذي يمضي نحو المجهول في ظل الاقتتال الداخلي والانفلات الأمني واتجاه بعض الأطراف نحو التقسيم والانفصال... على الرغم من هذا الكمّ الهائل من الأزمات والأمراض التي تنهش الجسد الليبي، تقف الجامعة العربية متفرجة صامتة عاجزة عن فعل أي شيء سوى المزيد من التآمر مع أعداء الأمة للتحضير لقتل ضحية أخرى على الطريقة الليبية، وفي مقابل ذلك أيضاً يقف المجتمع الدولي الذي شارك بقتل الليبيين وتدمير ليبيا... يقف عاجزاً عن فعل أي شيء لوقف تدهور الأوضاع الأمنية ومنع الانقسام لسبب بسيط وهو أن كل ما يجري في ليبيا من اقتتال وصراع وتقسيم وانقسام لمصلحة دول الاستعمار الجديد ممثلة بالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وطبعاً ''إسرائيل'' الذين يسيطرون على المجتمع الدولي ومؤسساته وهيئاته.
ونعتقد أن العرب لم يعودوا بحاجة للمزيد لإدراك مدى فداحة التدخل الخارجي الغربي في شؤون الدول العربية والمصير الذي سيؤول إليه، لأن قطار الاحتلال متحرك وليبيا ليست سوى حلقة في سلسلة... وقد لا يكون تدخل حلف الناتو ''عسكرياً'' في الأزمة الليبية هو الأخير في المنطقة المغاربية، فقد تتكرر عمليات التدخل إذا ما توفرت الظروف الملائمة والبيئة المواتية، وهو الأمر الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار في ما يتعلق بتطورات الوضع في المنطقة، لا سيما مع تأجيج الخلافات الداخلية ونزعات الانفصال من جهة، ومن جهة أخرى تطور سياسة حلف الناتو، وما يسمى بنظرية ''الأمن الناعم'' أو ''القوة الناعمة''، في مواجهة المتغيرات...
فالصراع في ليبيا يتخذ اليوم أبعاداً خطيرة، وينذر بتفتيت المنطقة المغاربية، في وقت تتكالب فيه القوى الغربية الكبرى على الوطن العربي لإخضاعه والسيطرة على ثرواته، ويمارس ''الناتو'' سياسة كونيالية جديدة في المغرب العربي، وهو ما يتطلب من العرب اليقظة وعدم ترك ''الأطلسي'' يتمادى في تشكيل الصورة المستقبلية للمنطقة المغاربية. فهذه هي عادة الغرب الظالم الاستعماري في سياق حروبه التي لا يقدمها بالمجان لأحد، فبعد دفع البلد المذبوح على يديه الدماء والخسائر المادية لابد أن يدفع الشعب ثمن صواريخه الذكية النادرة وثمن أمواله النارية التي أشعل بها البلاد ورماها في أتون القتل والتخريب نفطاً وتقسيماً وإمعاناً في بثّ نار الفتن والكراهية بين أبناء البلد الواحد.